قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تَعَالَى :
[واتفقت الأمة عَلَى أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينيه، ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، منهم من نفى رؤيته بالعين، ومنهم من أثبتها له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحكى القاضي عياض في كتابه الشفا اختلاف الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ومن بعدهم في رؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنكار عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها أن يكون صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بعين رأسه، وأنها قالت لـمسروق حين سألها: هل رأى مُحَمَّد ربه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت، ثُمَّ قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب.
ثُمَّ قَالَ: وقال جماعة بقول عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وهو المشهور عن ابن مسعود وأَبِي هُرَيْرَةَ واختلف عنه وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وعن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بعينه.
وروى عطاء عنه: رآه بقلبه ثُمَّ ذكر أقوالاً وفوائد ثُمَّ قَالَ: وأما وجوبه لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع ولا نص، والمعول فيه عَلَى آية النجم والتنازع فيها مأثور والاحتمال لهما ممكن، وهذا القول الذي قاله القاضي عياض -رَحِمَهُ اللَّهُ- هو الحق فإن الرؤية في الدنيا ممكنه إذ لو لم تكن ممكنة، لما سألها موسى عَلَيْهِ السَّلام؛ لكن لم يرد نص بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بعين رأسه بل ورد ما يدل عَلَى نفي الرؤية، وهو: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: {سألت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل رأيت ربك؟ فَقَالَ: نور أنَّى أراه} وفي رواية: {رأيت نورا}.
وقد روى مسلم أيضاً عن أبى موسى الأشعري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قَالَ: {قام فينا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمس كلمات، فقَالَ: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور} وفي رواية: {النَّار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} فيكون -والله أعلم- معنى قوله لأبى ذر {رأيت نوراً} أنه رأى الحجاب ومعنى قوله: {نورٌ أنى أراه} النور الذي هو الحجاب يمنع من رؤيته، فأنى أراه؟ أي: كيف أراه والنور حجاب بينى وبينه يمنعنى من رؤيته؟ فهذا صريح في نفي الرؤية والله أعلم، وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة عَلَى ذلك ونحن إِلَى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إِلَى تقرير رؤيته لربه تَعَالَى وإن كانت رؤية الرب تَعَالَى أعظم وأعلى فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها ألبتة.
وقوله: بغير إحاطة ولا كيفية -هذا لكمال عظمته وبهائه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: لا تدركه الأبصار ولا تحيط به، كما يُعلم ولا يحاط به علما، قال تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)) [الأنعام:103] وقال تَعَالَى: ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً))[طه:110] اهـ.

الشرح:
يقول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- تعالى: [واتفقت الأمة عَلَى أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه] هذه قاعدة عظيمة وإجماع متواتر لا يشك فيه عالم بدين الله تعالى، ولا يماري فيه ولا يدعي خلافه إلا زنديق أو جاهل، وهو أنه لا يرى الله تَعَالَى أحد في هذه الدنيا جهرة، ولو كَانَ ذلك حاصلاً لأحد من الأولياء أو من العباد لكان كليم الله موسى أولى به، بل الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم الخلق عَلَى الله وأعظمهم ولاية وقربة من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وأرفعهم درجة وهو الذي وصل عنده في ليلة الإسراء والمعراج إِلَى الغاية التي لم يصل إليها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ومع ذلك فإنه لم ير ربه بعينه في الدنيا وعلى هذا يدل الحديث الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت}،
ولم يخالف في ذلك أحد من أئمة الإسلام وعلمائه المعتبرين -والْحَمْدُ لِلَّهِ- وإنما وردت في كتب الصوفية الزنادقة -الذين يتمسحون بالتعبد والتأله والتزهد، وهم زنادقة فجرة- نقل عنهم أنهم يرون ربهم وأنهم يثبتون ذلك للأولياء أو الأقطاب، وقد أفتى العلماء ومنهم شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، بأن من قَالَ: إن أحداً من الأقطاب أو الأولياء أو الأوتاد يرى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بعينه في هذه الحياة الدنيا، فإنه يبين له الدليل، فإن تاب وإلا قتل، ويكفر إذا كَانَ يعتقد أن في ذلك تفضيلاً، فإذا بُين له أنك بهذا القول تفضل القطب أو الولي عَلَى أنبياء الله؛ لأن الله منع الرؤية عن موسى عَلَيْهِ السَّلام، فإذا اعتقد أن هذا الولي أو القطب أياً كَانَ أفضل من موسى عَلَيْهِ السَّلام، أي: حصل له ما لم يحصل للنبي، وكان ممن يعتقد تفضيل الأولياء عَلَى الأَنْبِيَاء كما كَانَ يقول ابن عربي وأمثاله، فعليه أن يرجع ويعود إِلَى حظيرة الإيمان ولا يعود إِلَى هذا القول، فإن أصر عَلَى هذا القول، فإنه يقتل كفراً وردة، وينطبق عليه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وذكر منها: التارك لدينه المفارق للجماعة} فهذا ترك الدين وفارق الجماعة بعد قيام الحجة عليه، هذا بخصوص رؤية غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .